جيل الشهادات المعطّلة.. أزمة تعليم لا يُنتج عملا ! / د.أمّاني ولد محمد سيدي

آراء

يتخرج كل عام عدد كبير من الشباب الموريتانيين من الجامعات والمعاهد، يحملون معهم أحلاما كبيرة بمستقبل يوفر لهم عملا محترما وحياة تليق بما بذلوه من جهد وسنينَ دراسة.. لكن الواقع كثيرا ما يصدمهم بمعادلة معقدة: فالشهادة وحدها لم تعد تفتح الأبواب.. وسوق العمل لم يعد في انتظارهم.. يكتشف كثير منهم بعد التخرج أن ما تلقوه من تعليم لا يجد مكانا في الواقع العملي، وأن احتياجات السوق تختلف عمّا تعلموه في الأقسام والمدرّجات.. وهكذا يجدون أنفسهم في مواجهة خيارين مرّين: إما البطالة، أو القبول بوظائف لا تمتّ بصلة لتخصصاتهم ولا لأحلامهم الأولى!

ليست هذه المفارقة مجرد ظاهرة عادية.. بل انعكاس لأزمة أعمق تضرب جوهر فلسفة التعليم نفسها.. فالنظام التعليمي القائم ما زال يمنح الأولوية لنقل المعلومات بدلا من تنمية الكفاءات.. ويجعل من النجاح في الامتحانات غاية بحدّ ذاتها، بدل أن يكون وسيلة لإعداد الفرد لمواجهة تحديات الحياة.. ما زالت المناهج، في أغلب مؤسساتنا، أسيرة أساليب تقليدية تتعامل مع الطالب كوعاء يُملأ بالمعرفة، لا كعقل مفكر وباحث قادر على الإبداع.. والنتيجة أن التعليم ينتج معرفة مفصولة عن الواقع، ويُخرّج أجيالًا تمتلك أدوات التفكير النظري، لكنها تفتقر إلى المهارة في التطبيق العملي..

في الوقت نفسه، يشهد عالم العمل تحولا غير مسبوق في سرعته واتجاهه.. فقد غيّرت الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي جذريا مفهوم الوظيفة ومعايير الخبرة، حيث لم يعد التفوق الدراسي وحده كافيا للنجاح أو لضمان مكان في سوق يقوم على الابتكار والمرونة وسرعة التكيف مع التقنيات الحديثة.. إن ما يُطلب اليوم هو مزيج من المعرفة والقدرة على تطبيقها في ابتكار حلول جديدة، لذلك لم يعد السؤال الأهم هو: “ماذا تعلمت؟” بل أصبح: “كيف توظّف ما تعلمته؟”

لم تعد الشهادات الجامعية تحمل الوزن نفسه الذي كانت عليه في السابق، في عالم أصبح يقيّم الأشخاص بما ينجزونه لا بما يحملونه من أوراق.. فاليوم لم تعد الشركات الكبرى ترى في الشهادة الجامعية شرطًا أساسيا للتوظيف، بل تبحث عن الكفاءة التي تُثبتها مجموعة المهارات الفعلية.. هذا التوجه الجديد يعكس تغيّرا عميقا في طبيعة الاقتصاد الحديث، حيث تحوّلت المعرفة إلى وسيلة إنتاج، وأصبحت المهارة رأس مالٍ يعادل في أهميته رأس المال المالي نفسه.

ومن اللافت أن هذا التحول العالمي وجد صداه في دول إفريقية استطاعت أن تُحوّل محدودية مواردها إلى حافز للإبداع، حيث نجح الكثير من شبابها في إنشاء شركات ناشئة في مجالات البرمجيات والتقنيات المالية والخدمات الرقمية، دون أن تكون الشهادة شرطًا في كل هذا النجاح.. لقد فهم هؤلاء المعادلة سريعا وانطلقوا نحو آفاق واسعة ومستقبل واعد.. إنهم يمثلون جيلًا آمن بأن التعليم وسيلة للتمكين لا للتصنيف الاجتماعي بحسب الشهادة، وأن القيمة الحقيقية للمعرفة تكمن في القدرة على الفعل لا في حيازة الورق..

في موريتانيا، لا يزال جزء كبير من نظامنا التعليمي عالقا في النموذج التقليدي الذي يُخرّج “طالبي وظائف” بدلاً من “صانعي فرص”.. نحن نُعدّ الشباب لدخول سوق عمل تغيّر مضمونه أو اختفى، ونقيس نجاح التعليم بعدد الشهادات لا بما تضيفه من قيمة حقيقية.. هذه الفجوة بين التعليم والاقتصاد ليست مجرد خلل تنظيمي، بل خطر يهدد التنمية، لأنها تؤدي إلى هدر أهم مورد نملكه وبإمكاننا الاستفادة منه : الإنسان في ذروة عطائه..

لم يعد تحديث المناهج والبرامج – في كافة مراحل التعليم – خيارا يمكن تأجيله أو شأنا يخص جهة بعينها.. بل أصبح قضية وطنية تمسّ مستقبل المجتمع بأكمله.. فالتنمية الحقيقية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، لا يمكن أن تقوم على تعليم يُخرّج أجيالًا تفتقر إلى أبسط المهارات التي يتطلبها العصر..

إن التغيير المطلوب يبدأ من إعادة النظر في دور المدارس والجامعات والمعاهد، بحيث لا تقتصر مهمتها على منح الشهادات، بل تتحول إلى مراكز لإنتاج المعرفة وتوليد الحلول الإبداعية.. ويتطلب ذلك غربلة شاملة للمناهج لتنافس نظيراتها في دول العالم المتقدم.. هذا بالإضافة إلى دمج المهارات الرقمية في المراحل الدراسية الأولى وكذلك التدريس المركّز لريادة الأعمال واللغات في مختلف التخصصات، وربط المناهج الدراسية بمتطلبات سوق العمل المحلي والإقليمي، إلى جانب تشجيع الطلاب على تنفيذ مشاريع ميدانية تمنحهم خبرة واقعية وتُعدّهم للتعامل مع تحديات الحياة العملية بثقة وكفاءة.

إن إعادة وصل التعليم بعجلة التنمية ليست مهمة بسيطة، بل تحتاج إلى إرادة سياسية صارمة ورؤية تمتد إلى المستقبل.. فالتعليم لا ينبغي أن يُعامل كقطاع منفصل، بل كقلب نابض لمشروع وطني شامل، يربط بين المعرفة والعمل، وبين الجامعة والمجتمع، وبين الفكر والإنتاج.. فالدول التي استطاعت أن تنهض بسرعة، رغم محدودية ثرواتها ووسائلها، استوعبت مبكرًا أن الاستثمار في الإنسان هو الأساس لكل نهضة، وأن جودة التعليم لا تتوقف عند تطوير المناهج، بل تشمل بناء منظومة قيم جديدة تربط المدرسة بحياة الناس وباحتياجات الاقتصاد..

في ضوء كل ما سبق، يمكن الجزم أن تقدمنا في عالم اليوم مرهون بقدرتنا على الانتقال من منطق التلقين إلى منطق التمكين، ومن تخريج حفظةٍ للمعرفة إلى إعداد صانعي معرفة.. إن اللحظة الراهنة تفرض علينا أن نعيد تعريف الغاية من التعليم بوصفه مشروعا لبناء الإنسان المنتج لا المواطن المنتظر للوظيفة.. فحين يصبح التعليم أداة لتفجير الطاقات الخلاقة وربطها بحاجات التنمية، يمكن حينها أن يتحول الشباب من عبءٍ على سوق العمل إلى محرك رئيس لعجلة الاقتصاد، ومن متفرجين على التحولات إلى صُنّاعٍ لها.. تلك هي المعادلة التي لا بد أن نؤمن بها، إذا أردنا لتعليمنا أن يكون بوابةً نحو المستقبل لا مرآةً تعكس ماضينا !

 

بقلم الدكتور أمّاني ولد محمد سيدي
أستاذ جامعي