بين موريتانيا ومصر: حين يسقط أول الرؤساء المدنيين

آراءأنباء دوليةالأخبار

مقدمة

في العالم العربي، ظلّ الحُكم لعقود طويلة حكرًا على العسكر أو على أنظمة مدنية مدعومة بالجيش. ومع بداية القرن الحادي والعشرين، شهدت كل من موريتانيا و مصر لحظات فارقة: وصول أول رئيس مدني منتخب عبر صناديق الاقتراع.
في نواكشوط كان الاسم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله (2007)، وفي القاهرة كان الاسم محمد مرسي (2012). كلاهما حمل آمال شعوب تتطلع إلى التحول الديمقراطي، وكلاهما أطاحت به الدبابات في غضون عام واحد فقط.

فما الذي جمع بين التجربتين؟ وما أوجه التشابه والاختلاف بين مساريهما؟ وكيف تكشف قصتهما عن حدود التحول الديمقراطي في دول يظل الجيش فيها اللاعب الأقوى؟

أولًا: البدايات والدراسة – مساران متوازيان في زمنين مختلفين

ولد الشيخ عبد الله: خبير الاقتصاد القادم من غرونوبل

وُلد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله سنة 1938 في مدينة ألاك بوسط موريتانيا، في فترة ما قبل الاستقلال. أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي في البلاد، قبل أن يحصل على منحة إلى فرنسا حيث درس الاقتصاد بجامعة غرونوبل.
كان تكوينه الأكاديمي في الاقتصاد والتنمية مرآةً لطموح موريتانيا الفتية، التي كانت تبحث عن نخب مدنية متعلمة قادرة على إدارة الدولة بعد الاستقلال.

مرسي: المهندس القادم من كاليفورنيا

أما محمد مرسي فقد وُلد عام 1951 في قرية العدوة بمحافظة الشرقية في دلتا مصر. درس في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وحصل على ماجستير في هندسة المواد، ثم سافر إلى الولايات المتحدة ليحصل على دكتوراه من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1982.
اشتغل أستاذًا جامعيًا بكلية الهندسة في جامعة الزقازيق. ومنذ البداية كان عالِمًا وأكاديميًا قبل أن يكون سياسيًا.

🔹 المشترك بينهما: كلاهما مثّل جيلًا من النخبة المتعلمة في الخارج، وعاد إلى وطنه مسلحًا بالمعرفة، بعيدًا عن المؤسسة العسكرية.

ثانيًا: المسار المهني قبل الرئاسة

ولد الشيخ عبد الله: تكنوقراط بين المناصب والمنفى

عاد إلى موريتانيا ليشغل مناصب وزارية مهمة: وزير التخطيط، وزير الاقتصاد، وزير الصيد. لكنه مع مرور الوقت دخل في خلافات مع الرئيس معاوية ولد الطايع، مما أدى إلى إبعاده من المشهد السياسي. عاش سنوات في النيجر منفًى اختياريًا، حيث عمل خبيرًا اقتصاديًا في منظمات إقليمية.

مرسي: من البرلمان إلى المعارضة

دخل محمد مرسي السياسة عبر جماعة الإخوان المسلمين، حيث كان من الكوادر البارزة. انتُخب نائبًا في البرلمان بين 2000 و2005، وعُرف بخطابه المعارض ومداخلاته الصريحة ضد الفساد وسياسات الحزب الحاكم.
ورغم خلفيته الأكاديمية، فقد تحول تدريجيًا إلى وجه سياسي بارز داخل الحركة الإسلامية المصرية.

🔹 الفرق: ولد الشيخ عبد الله تكنوقراط إداري خبير في الاقتصاد والتنمية، بينما مرسي برلماني معارض قادم من حركة سياسية جماهيرية.

ثالثًا: الطريق إلى القصر – لحظة الأمل

موريتانيا 2007: انتخابات على أنقاض انقلاب

بعد انقلاب 2005 الذي أطاح بمعاوية ولد الطايع، تعهد المجلس العسكري بتنظيم انتخابات ديمقراطية.
في مارس 2007 جرت انتخابات رئاسية تعددية لأول مرة، فاز فيها ولد الشيخ عبد الله بعد جولة ثانية بدعم واسع من طيف سياسي متنوع.
كان انتخابه حدثًا تاريخيًا: لأول مرة يتولى مدني الحكم في بلد سيطر عليه العسكر منذ الاستقلال.

مصر 2012: ثورة وصناديق اقتراع

بعد ثورة يناير 2011 وسقوط حسني مبارك، تولى المجلس العسكري إدارة المرحلة الانتقالية. جرت أول انتخابات رئاسية حرة عام 2012.
فاز محمد مرسي في الجولة الثانية بنسبة 51% أمام أحمد شفيق، ليصبح أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر منذ إعلان الجمهورية 1953.
كانت لحظة مشحونة بالأمل: للمرة الأولى يكسر المصريون احتكار العسكر للرئاسة.

🔹 القاسم المشترك: كلاهما وصل إلى الحكم عبر أول انتخابات تعددية حقيقية في بلاده، وفي سياق انتقال عسكري.

رابعًا: قرارات أغضبت العسكر

ولد الشيخ عبد الله: مواجهة النفوذ العسكري

  • أقال قائد الحرس الرئاسي الجنرال محمد ولد عبد العزيز.

  • حاول إدخال شخصيات مدنية محسوبة على المعارضة القديمة.

  • سعى إلى تقليص تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة.

هذه القرارات اعتُبرت تحديًا مباشرًا للجيش، الذي لم يكن مستعدًا للتنازل عن نفوذه.

مرسي: الإعلان الدستوري وأزمة الثقة

  • أصدر في نوفمبر 2012 إعلانًا دستوريًا منحه صلاحيات واسعة، مما فجّر معارضة سياسية واسعة.

  • أقال المشير حسين طنطاوي وعين وزيرًا شابًا للدفاع: عبد الفتاح السيسي.

  • حاول تقليص نفوذ القضاء والإعلام عبر قرارات مثيرة للجدل.

هذه الخطوات عمّقت الشكوك في نوايا مرسي، وخلقت حالة استقطاب غير مسبوقة.

🔹 المشترك: كلاهما تجاوز “الخط الأحمر” للجيش، وحاول فرض سلطة مدنية كاملة، وهو ما اعتبرته المؤسسة العسكرية تهديدًا لوجودها.

خامسًا: لحظة الانقلاب

نواكشوط 2008: انقلاب سريع

في السادس من أغسطس 2008، وبعد ساعات فقط من إقالته الجنرال محمد ولد عبد العزيز، تحركت الدبابات. أعلن العسكر انقلابًا “لتصحيح المسار الديمقراطي”.
اعتُقل ولد الشيخ عبد الله، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في مدينة لمدن.

القاهرة 2013: انقلاب تحت غطاء شعبي

في 30 يونيو 2013 خرجت مظاهرات واسعة ضد حكم مرسي. بعد ثلاثة أيام، أعلن الفريق عبد الفتاح السيسي عزل الرئيس المنتخب، وألقاه في السجن.
كان الانقلاب هذه المرة مغلفًا بغطاء شعبي وإعلامي، لكنه ظل في جوهره انقلابًا عسكريًا.

🔹 المشترك: كلاهما لم يكمل سوى عام واحد في الحكم، قبل أن يطيح به الجيش.

سادسًا: ما بعد الانقلاب

ولد الشيخ عبد الله: صمت حتى الرحيل

بعد فترة من الإقامة الجبرية، أُفرج عنه. انسحب من الحياة السياسية، وفضّل العيش في هدوء حتى وفاته في نوفمبر 2020.
ظل في ذاكرة الموريتانيين كرمز لأول تجربة مدنية قصيرة العمر.

مرسي: سجن حتى الموت

قضى مرسي سنواته الأخيرة خلف القضبان. ظهر في محاكمات متقطعة، قبل أن يفارق الحياة فجأة في قاعة المحكمة يوم 17 يونيو 2019.
وفاته أثارت ردود فعل دولية قوية، وخلّفت جرحًا عميقًا في الذاكرة السياسية المصرية.

🔹 الفرق البارز: ولد الشيخ عبد الله خرج بسلام نسبي، بينما مرسي دفع حياته ثمنًا لتجربته.

سابعًا: الدروس المشتركة

من خلال مقارنة التجربتين يمكن تلخيص الدروس في نقاط:

  1. الجيش هو الحكم الفعلي: في مصر وموريتانيا ظل الجيش اللاعب الأقوى، يحدد سقف التجربة المدنية.

  2. الديمقراطية الناقصة: الانتخابات وحدها لا تكفي لبناء ديمقراطية راسخة في غياب توافق وطني على دور الجيش.

  3. القصر بلا حماية: الرئيس المدني حين يفتقد الدعم المؤسسي يصبح معزولًا، عرضة للانقلاب.

  4. المصير المأساوي: كلا التجربتين انتهت بخيبة أمل، ورسخت الشكوك في إمكانية تعايش المدني والعسكري في الحكم.

خاتمة

من ألاك إلى القاهرة، تكررت القصة: رئيس مدني منتخب يصطدم بالجيش، فتطوى صفحته سريعًا.
قد تختلف التفاصيل، لكن العبرة واحدة: في دول تشكلت جمهورياتها على أكتاف الانقلابات، يظل المدنيون ضيوفًا مؤقتين في القصر، ما لم يُعاد تعريف العلاقة بين الحكم والسلاح.

ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل سيأتي يوم يكمل فيه رئيس مدني عربي ولايته الدستورية، دون أن تقطع الدبابات الطريق؟

Alioun M'leiwih

رئيس التحرير