خديجة محمد عبده
ضرب إعصار “زوال الاستقرار الأمني” العديد من الدول الافريقية، مخلفا آثاره البائسة مطبوعة على وجه التقدم الحضاري والاقتصادي لتلك البلدان، إلا أن موريتانيا وإن كان هرج ومرج ” الساحل المضطرب” قد أحاط بها من كل الجهات، نجحت في صناعة شهرة واسعة لنفسها- بين دول أرهقتها الانقلابات العسكرية ومزقتها النزاعات العرقية، فضلا عن نار الإرهاب التي أجهزت على الأخضر واليابس فيها – في الثبات ضد رياح الاعصار التي أسقطت دولا برمتها، وألقت بأقدم الحلفاء ( فرنسا وأمريكا )خارج حدودها، في ثورة تغيير جارفة.
موريتانيا وعلى الرغم من ضعف أرقامها على مؤشرات التنمية؛ وتعدادها السكاني وتدني الحياة المعيشية للأفراد فيها نسبيا؛ تستقطب الغربيين للحديث عنها كدولة نموذجية في المنطقة، وعن هدوئها السياسي والأمني، نظرا إلى أن آخر انقلاب شهدته كان قبل أقل من عقدين، بالإضافة إلى أن محاولات الجماعات المسلحة لاختراق أراضيها المترامية الأطراف، كانت تبوء دائما بالفشل، على الأقل منذ 2011.
رد الجميل!!
كان صادما للحكام والمحكومين أن تنطلق صافرات الإنذار من القرى الموريتانية الواقعة على شريط الحدود الشرقية مع مالي!، إلا أنه حدث ما حدث؛ فميليشيات فاغنر المتعاونة مع الجيش المالي، قامت بعمليات تعتبر تعديا على سكان تلك القرى، لتبدأ طلائع الكابوس في التجسد على أرض الواقع، عبر نزوح عشرات الأسر التي فرت تاركة أمتعتها وبيوتها، خوفا من أن تبتلعها رمال فاغنر المتحركة.
ولم تجد الحكومة الموريتانية بعد تداول الفديوهات القادمة من القرى الحدودية المتداخلة التي شهدت اعتداءات فاغنر التابعة للقوات المالية، بدا من تذكير الجار الذي تتعانق أرضه مع أرضها بالجميل الذي قدمته له من ترك باب ترسيم الحدود بين بلديهما مفتوحا، تغذية لأواصر الود والأخوة منذ الاستقلال، أضف إلى ذلك تقديم المساندة خلال الحصار الذي شنته بلدان السيدياو ، حيث واظبت على إمداده بالمؤونة.
حرج في وقت خاطئ
هذا ” التسلل الإرهابي الجديد” على الحدود وانتهاك القرى التي يسكنها موريتانيون يصوتون في موريتانيا ويحدد جهاز GPS وجودهم في مالي، شكل حرجا للسلطات الموريتانية على وسائل التواصل الاجتماعي…خاصة خلال هذه الفترة الحساسة حيث ستنطلق من الانتخابات الرئاسية في التاسع والعشرين من الشهر المقبل.
وفي السياق ذاته، نقلت صحيفة إذاعة فرنسا الدولية ” rfi “ قولها إنه خلال الشهر الماضي تمت إصابة ثلاثة مدنيين موريتانيين إثر توغل للجيش المالي وجماعة فاغنر في قرية مد الله في بلدية فصالة التابعة لولاية الحوض الشرقي، وذلك “كجزء من عملية لمكافحة الإرهاب لم يعلن عنها من قبل باماكو ولا نواكشوط بشكل رسمي”، وفق تعبيرها.
استنفار دبلوماسي وعسكري
بعد زيارة الوفد الدبلوماسي المبتعث من طرف باماكو لنواكشوط بقيادة وزيري الخارجية والدفاع، توجه السبت الماضي وزير الدفاع الموريتاني حننه ولد سيدي رفقة رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء أحمد فال ولد الشيباني إلى باماكو، حيث التقيا الحاكم العسكري لمالي آسيمي غويتا، وسلماه رسالة من الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني
وأكد ولد حنن قاطعا الشك باليقين، إبان المناورات التي قام بها الجيش في المناطق الحدودية مع مالي على خلفية إعتداءات عناصر فاغنر على سكان تلك القرى، أن الجيش في كامل الجاهزية والاستعداد للرد على أي هجوم محتمل، حيث شاركت في المناورات مختلف التشكيلات العسكرية، من قاعدة الطيران المسيرة إلى المدفعية وسلاح الجو.
سنرد الصاع صاعين
أعاد الناطق الرسمي باسم الحكومة الناني ولد اشروقة الطمأنينة إلى النفوس بعد ارتفاع الاصوات المطالبة بتوضيح لما قاله وزير الداخلية محمد أحمد محمد الامين “إن دولة مالي تشهد تحولا أمنيا وانعدام الاستقرار “والجار يبقى جارا والعلاقات التاريخية يجب المحافظة عليها”، الأمر الذي استشف منه الكثيرون التعاطف مع مالي، بينما اعتبر آخرون أنه جاء تحاشيا للصدام وسعيا لكسب الهدوء في وجه الانتخابات، وهو ما نفاه ولد شروقه بالكامل، حيث أكد أن ما حدث لم يكن عن قصد وأن القوات المسلحة الموريتانية ستكيل الصاع صاعين لمن تسول له نفسه استباحة أمن المواطنين أينما كانوا
تمادي في التصريحات
يعتبر استعراض الجيش الموريتاني تأهبه، وتعزيز حضور في مواقع التوتر بين الدولتين، آتى بعض أكله، فقد خرج مدير الإعلام والعلاقات العامة في الجيش المالي، العقيد سليمان ديمبيلي، ينفي تورط القوات المالية في أي عمليات على الحدود الموريتانية.
إلا أن السكان لم ينعموا بالطمأنينة التي كانوا يرجونها، فبعد أيام قليلة على الخرجة الاعلامية لديمبيلي، اقتحمت – حسب مصادر محلية لصحيفة تقدمي- 30 سيارة مصفحة تابعة للجيش المالي قرية (كتول) الموريتانية، حيث قال المتحدث باسم الدورية لشيخ القرية، إن المنطقة تابعة لمالي، حسب ما أفاد به قائد الجيش.
إلى أين نتجه؟
وبالرغم من كل ما حدث، لازلت الطاولة الموريتانية ترحب بأي حوار جدي وحازم، وهو ما سارعت إليه باماكو عبر ابتعاثها وفدا عسكريا إلى موريتانيا أمس الخميس، برئاسة عمار ديارا قائد أركان الجيش المالي، حيث نقل خلال جلسة عقدها مع المختار بله شعبان قائد الأركان العامة للجيوش الموريتانية، رغبة مالي في تشخيص المشاكل والمخاوف الأمنية للطرفين.
وبحسب تقرير سري لوكالة “فرونتكس” الذي نشرته صحيفة “جاسيتا” الأسبانية، فإن موريتانيا “تستضيف حاليا عددا كبيرا من المهاجرين الماليين غير النظاميين”، وأنه “في الأشهر المقبلة يمكن أن يصل 100 ألف آخرون من شمال مالي” فهل سيراعي الطرفان حق الجيرة والمصالح المشتركة؟، أم أن تواصل الاستفزازات سيجعل القضية تأخذ منحى آخر قد يصل إلى كسر الحواجز الدبلوماسية بصفة غير محمودة العواقب؟